الناس / الثقافة
إن كل شيء في الواحة يتمحور حول الماء.فامتلاكه له أهمية بالغة تفوق أهمية ملكية الأرض.بدليل أن أسماء الأماكن والخزف والخرافات والحكايات والأساطير ذات صلة وطيدة بالماء.ونتيجة لذلك، فإن الفجارات هي أكثر من مجرد نظام للري : فهي تمثل البنية الاجتماعية التقليدية لكل قرية، وتمكن من تنظيم التفاعل والتمازجحول هذا المورد الثمين.ومهما يكن من أمر، فإن استمرار الصراع حول الماء كان الدافع وراء الخصومات والنزاعات بل أيضا فترات عنف بين الأفراد ومختلف ” القصور” والمجموعات الإثنية.وقد ساهم تطور المجتمعات في وضع حقوق خاصة بالماء تحكمها القوانين العرفية والمواثيق المتفق عليها.ومن الضروري لفهم الثقافة المحلية، تفسير التنظيم السوسيو-سياسي حول الماء
التنظيم الاجتماعي حول الماء، المؤسسات والميكانيزمات
إن صيانة النظام المعقد للخطارات، والسدود الصغرى والقنوات وتدبير توزيع الماء على عدد كبير من القطع الأرضية ومالكي المياه تطلب تنظيما جماعيا وتراتبية قوية داخل كل ” قصر “.ولهذه الغاية، فإن الجماعات السلالية أنشأت آنذاك مؤسسات لتدبير الماء :
- أمغار نوى مان أو أمغار نتركة ، هو الرجل المكلف بشرطة الماء، والذي يحرص على أن يستفيد كل واحد من حقه في الماء، وخاصة في فصل الصيف أو خلال جريان المياه في فصل الشتاء.إذ ينبغي على كل واحد أن يحترم حق ودور جيرانه.كما يراقب مدة استعمال الماء، و يتصدى لكل الانتهاكات والمخالفات ويقرر في شأنها.ومن الهام هنا الإشارة إلى أن أمغار نوى مان يتم انتخابه باستمرار من لدن الطبقات السفلى وأن سمعته لا يمكن مقارنتها بسمعة أمغار نوفلة الذي يعد زعيم الحرب أو أمغار لجمات رئيس الجمعية التنفيذية.
- حد صايم، هي الدعوة التي توجهها الجماعة للشباب والكبار من أجل العمل الجماعي.ويحدد سن العامل بصيامه الأول لرمضان ( عندما يشتد عوده ويصبح قادرا على الصيام)، إذ لن يعد بعد ذلك مجرد طفل فحسب، وإنما فردا قادرا على العمل.وهناك تقنية دقيقة أخرى تستخدم لتحديد القدرة على البدء في العمل، وذلك بمقارنة حجم الرأس بعنق أحد المراهقين.إذ تلف قطعة من خيط طويل مزدوج حول عنق الشخص، ثم يلف هذا الخيط نفسه حول رأسه ولكن بطول واحد فقط هذه المرة.فإذا أصبح الرأس محاطا كلية ، فإن الشاب قادر على العمل، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنه لازال يعد طفلا.أما رجال الدين للجماعة (الفقيه) والأرامل والأفراد المنتسبون إلى الأسر الشريفة (الشرفاء) فهم معفون من الأعمال.
- البرمجة والمقاييس : ترتبط البرمجة السنوية بفترتي البذر والحصاد.ويتم إعدادها بناء على وضعية النجوم في السماء التي تعلن عن مقدم الفصول (إيمنازل).كما أن الحياة اليومية تحكمها أوقات الصلوات وحيث أن العلم (علم الفلك ) يحدد التوقيت بكل دقة وهو الذي يحدد بدوره هو الآخر لحظات التأمل والتفكير العميق أو الأوقات المخصصة للتجمعات في المساجد أو الحقول.
- إن المسجد ليس مكانا مقدسا لإقامة الصلوات فحسب، ولكنه أيضا مكان لدراسة القرآن ، ومكان للوضوء وتطهير الجسد، ولهذه الغاية أحدثت سقايات مائية.ففي كل مسجد توجد بئر غالبا ما تكون بالمنطقة الداخلية في ” القصر” ويمكنها أن تحول في الوقت ذاته إلى مكان تشرب منه الحيوانات في فترات الجفاف.وتخترق القصر دائما شبكة من السواقي تستعمل للغسل وتنظيف الملابس.
- الطرق التقليدية لتوزيع حقوق الماء : إن ” تكورت ” هي كلمة تعني من الناحية اللغوية ” الباب المساعد الصغير للخيمة ” .وقد أصبح هذا التعبير المشترك بفضل انتشاره الواسع الوحدة الأساس للأرض والماء، غير أن معناها يختلف بحسب نوعية الطوبوغرافيا وأيضا بحسب جريان الماء.وتعني تكورت أيضا، المكان الذي يمكن أن تزرع فيه كمية ذات نوعية معينة من القمح أو الشعير.فعندما احتلت القبائل الرحل واحة غريس قسموا في البداية الأرض بحسب عدد القبائل، ثم بحسب عدد عائلات هذه القبائل، وأخيرا وفق عدد الذكور البالغين .وتصبح المكانة الاجتماعية أكبر عندما يكون هناك عدد كبير من تاكورت. ولكلمة تاكورت قيمة روحية هامة بالنسبة لسكان واحة غريس.ومعناها يقترب كثيرا من معاني القمر، الحظ،، فال الخير، العمل النافع والمنتج و الفدية.
الماء، تنظيم العمل، العطل والتغيير
من المستحيل إدراك الحياة الاجتماعية للواحة دون فهم لطبيعة عملها.فالعمل في الواحات، هو المرادف للحياة ، والعطالة هي المرادف للبلى والتسوس والموت.فعندما نسأل السكان، ندرك أن مساهمة الإنسان غير مدرجة في حساب نتائج المحصول السنوي، فهي مساهمة عادية و طبيعية.
إن العمل الفلاحي في الواحات وطيد الصلة بمؤسسة للأجداد هي : الخماسة.والخماسة عقد شفهي بين المالك الذي يمنح الأرض والماء ووسائل الانتاج، والفلاح الذي لا يملك الأرض ويشتغل مع أسرته مقابل خمس (5/1 ) الإنتاج .وبصرف النظر عن بساطته الظاهرية، فإن هذا العقد معقد نتيجة لتعقد الحياة الفلاحية ذاتها بفعل تعدد المنتوجات وطبيعة ونوعية العمل وعامل الزمن، والأخطار الممكن حدوثها …ولتدبير مثل هذه العقود، هناك إطاري عمل يلعبان دورا حاسما في هذا المجال ، هما : القانون الإسلامي لمالك بن أنس والقانون العرفي.
إن الخماسة وحقوق الماء، قد تراجعت لأسباب ثلاثة : التغير الذي طرأ على الحق في الماء بفعل السقي المحوري، الأجر الأسبوعي، الهجرة الريفية، والهجرة الداخلية.وقد تلاحقت هذه العوامل الواحد منها تلو الآخر، وعلى ثلاثة فترات :
أ) تدخل السلطات الاستعمارية في الشأن العام، بل الأهم من ذلك، التغير الراديكالي من ملكية الأجداد للماء إلى نظام للسقي المحوري، يدبر في فصل الشتاء وفصل الصيف (مسو).وقد كانت هذه هي البداية لتقهقر نظام التراتبية الاجتماعية في الواحات.ويصف أحد المنحدرين من إحدى الزوايا ، ما حدث كالتالي :
” لقد كان لنا الحق في الماء لمدة 24 ساعة من غروب الشمس إلى غروبها.إذ نسقي أرضنا ونسمح لجيراننا بأن يفعلوا الشيء نفسه, وفجأة قررت السلطات الاستعمارية والقائد الذي فقد أرضه سرقة ممتلكاتنا.فاحتج آباؤنا على ذلك ، لكنهم أدخلوا السجن.وعند انهيار الزاوية، تم القضاء على النظام الاجتماعي.ومهما يكن ، فإن المشكل الحقيقي يتمثل في فقدان مالكي الماء لملكيتهم، ولكون الماء ليس ملكا لأحد فإنه يتعرض للتبديد والإضاعة.وما كنا نأمل استفادته وربحه من الميسو، أضعناه من جراء التدبير السيئ للماء والخصومات.بل إن الفقراء أنفسهم عانوا، لأن مشغليهم ضاع منهم كل شيء ”
وأضاف أحد التقنيين الفلاحيين :
” إن الميسو يبدو عادلا ومنصفا، لكنه لم يعد حاليا كذلك، فالذين هم على مقربة من منبع النهر يتوصلون بكميات أكير من الماء، والذين هم في مصب النهر، لا يصلهم إلا القليل.كما أن ملاك الأراضي يحصلون على مياه أكثر من الفلاحين الذين لا أرض لهم.وقد تسبب ذلك في مشاكل تتعلق بتنظيف قنوات الري، فالملاكون يريدون من الفقراء أن يقوموا بتنظيفها لما يجنونه من أرباح من جذور أشجار النخيل، بينما يرفض الفقراء العمل لفائدة من يجنون كل الأرباح.
كان هذا هو أكبر تغير اجتماعي في الواحات، وجاء نتيجة للتغيرات القانونية، مثلما هو نتيجة للتغيرات التي طرأت على تقنيات تدبير الماء. وهناك مثل شعبي محلي يقول ” من المستحيل أن تلمس الماء، دون أن تلمس باقي الأشياء الأخرى في الحياة اليومية ” .
ب) والفرصة الثانية التي أضاعت التنظيم الاجتماعي ، هي اكتشاف العمل مقابل أجر في حقول الكروم بالجزائر.فالمهاجر إلى الجزائر، بإمكانه أن يحصل خلال شهر على أجر يفوق ما يحصل عليه خلال سنة كاملة في الخماسة المحلية .وحال عودة المهاجر إلى بلده والمال معه، عادة ما يطلب من إخوته الذين تركهم خلفه تقسيم الملكية.وقد كانت هذه هي الخطوة الأولى لظهور الأسر النووية وإلى بداية تجزئة الأرض والتمركز حول الذات وبروز قيم ترسخ نزعة الأنانية والاستعراض والمباهاة وأقصى درجات التنافسية والاستهلاك.
ج) وتمثلت الضربة القاضية الأخيرة في الخدمة المدنية.إذ أن المدرسين والممرضين والمهندسين والأطباء انقطعوا بصفة نهائية عن المجتمع والشؤون العامة، واختفى الماء من مفكرة الشرائح المتعلمة، بالرغم من محاولات بعض الجمعيات الاهتمام بهذا المشكل في سنوات السبعينيات.فمن الناحية السيكولوجية، رفض الناس كل شيء له صلة بالماء والأرض والفلاحة، بل إن خبراء التصحر أكدوا على أن النقص في القوى العاملة من شأنه التعجيل بالقضاء على الواحات، قبل أن يكون التصحر السبب في ذلك.