محطات المياه
تعد الأشغال المائية الكبرى جد حيوية بالنسبة لسكان الواحات ،إذ قبل أن يبدأ كل مزارع عمله اليومي سواء بمفرده أو بمعية أسرته أو خماسه وجماعة القصر، عليهم جميعا التضامن من أجل تأمين المياه لجماعتهم. فهم يحتاجون إلى استمرارية تدفق مياه الينابيع, وبناء الأحواض) تنوفي( لزيادة كمية المياه المتدفقة في القنوات نحو الحقول، و بناء السدود الصغيرة أو إصلاحها، وتنظيف الخطارات التي تتشكل من سلسلة متوالية من الآبار التي ترتبط بأقنية باطنية تتجه نحو الحقول. وعلى أقنية الماء تزويد بساتين النخيل المتواجدة في أعالي المجرى وسافلته بالمياه الكافية حسب العرف والحقوق المائية المنصوص عليها في الصكوك(الاتفاقيات والمواثيق) المتوارثة.وتنشأ أيضا بعض الضايات الاصطناعية لتخزين المياه لمدد متفاوتة والتي يستفاد منها أيضا في خزن المياه ولمدة عدة سنوات لقطعان الماشية.
عملية نظام سقي الخطارة
تمثل الخطارة أو (الفكارة) تقنية قديمة بالغة التعقيد، تمكن من مصيدة المياه الجوفية لاستغلالها في أغراض الري. ويعود تاريخ هذه الطريقة إلى آلاف السنين, وقد تم اعتمادها في أكثر من منطقة من مناطق العالم تمتد من الصين الى اسبانيا، مرورا ببلاد فارس بل امتدت إلى أميركا اللاتينية. عرفت أنظمة المياه هاته بأسماء مختلفة الخطارة أو (الفكارة) في الصحراء الكبرى، أو الكارز في بلاد فارس أو الفلاز في العربية السعودية والمدجيرات في الأندلس، وقد وجدت أنظمة شبيهة لشبكات المياه هاته، في البيرو والمكسيك باسم هوياس (hoyas) (Laureano, 2005). و أول تاريخ موثق حول القناة يعود إلى القرن السابع 7 قبل الميلاد.
وفي منطقة البحر المتوسط, امتدت القناة ذات الأصول الفارسية (ايران اليوم), إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال المناطق القاحلة وشبه القاحلة, من بينها المغرب.
الخطارة نظام يأسر فرشة المياه الجوفية عبر نفق أفقي يحفر على مسافات طويلة (عادة 4-8 كلم, ويمكن أن تصل حتى 15 كيلومترا في طولها!). وعلى مسافات فاصلة متساوية 10 مترا تحفرآبار عمودية تمكن من عمليات الولوج والصيانة للقناة الرئيسية, . إن وظيفة مثل هده الآبار ليس جلب المياه منها وإنما تهوية الخطارة وتكثيف مياه الجو . وباعتبار أن بناء النفق الرئيسي للخطارة كان الهدف منه الحصول على انحدار تدريجي أفضل من الأرض التي تتواجد تحتها ،فإن النفق يصبح دو انحدار تدريجي ينتهي بظهوره على سطح الأرض بعد قطعه لمسافة عدة كلومترات بعيدا عن البئر الأول للخطارة الدي يصل عمقه في بعض الحالات إلى 150 متر (باعتبار أن النفق قد مر تحت الجبال والتلال). و قد تبدأ عملية البناء أيضا من الموقع المنخفض للمستوطنة وتتبع في العادة المخروط الرسوبي للنهر أو ترسبات الوادي.
خلافا للقناة المغذية و القنوات الإيرانية ، فإن الفجارة في المغرب لا تنقل المياه من الينابيع العميقة جدا أو الفرشات الباطنية، لكون النفق الرئيسي عادة ما لا يصل لموارد المياه الجوفية العميقة (وريانو، 2005). وتغذى الفجارة حاليا بالمياه وفق إحدى الطرق التالية:
(ب) : من خلال الأمطار النظامية التي تهطل في فوق سطح الخطارة : وفي هذه الحالة تتسرب بعض هده التساقطات أو مياه الأحواض التي تتجمع فيها عبر الصخور النفاذية المكونة للطبقة الأرضية نحو النفق الرئيسي. ويحدث ذلك حتى بالنسبة للمناطق التي تضعف فيها هذه التساقطات باعتبار اتساع أحواض التجميع هاته وتغذيتها بواسطة الأمطار الموسمية.
(أ) : من خلال الأمطار النظامية التي تهطل في فوق سطح الخطارة : وفي هذه الحالة تتسرب بعض هده التساقطات أو مياه الأحواض التي تتجمع فيها عبر الصخور النفاذية المكونة للطبقة الأرضية نحو النفق الرئيسي. ويحدث ذلك حتى بالنسبة للمناطق التي تضعف فيها هذه التساقطات باعتبار اتساع أحواض التجميع هاته وتغذيتها بواسطة الأمطار الموسمية.
(ج) من خلال تكاثف رطوبة الغلاف الجوي : كأساس لظاهرة “التساقطات الخفية” التي لها أهمية محورية في النظام الإيكولوجي للصحراء (نتيجة لهذه العملية تؤمن بعض الكائنات مثل الغزلان ، السحالي وبعض الحشرات مياه شربها لضمان بقائها على قيد الحياة في الصحراء). ويحدث في عدد من الليالي بسبب نوع درجة الحرارة التي يمكن أن تصل إلى 60 درجة بين النهار والليل، الكثير من عمليات التكثيف التي إذا تم توظيفها بشكل جيد يمكن أن تشكل احتياطات مائية لا بأس بها وتتسرب الرطوبة بفعل انبعاث الحرارة في الليل نحو الرمال ،وتعزز الفكارة هذه العملية بحيث أنها تعمل كمضخات لجذب البخار. أما بعد شروق الشمس لإإن هذه العملية تصبح معكوسة نتيجة لحرارة الهواء في الفكارة وهي الحرارة التي ترتفع عبر الفوهات السطحية من جراء تعرضها لحرارة صحراوية حارقة، مخلفة وراءها قطرات مائية يحتفظ بها في التربة وعلى جدران النفق. ويتم سحب هذه القطرات بواسطة الفعل الانجدابي لتتدفق عبر النفق الرئيسي. وقد أفضت العمليات الحسابية ذات الصلة بهذه العملية في الصحراء، إلى أنه بالإمكان جمع 4 سنتمتر مكعب من المياه لكل متر مربع من المساحة السطحية في ليلة واحدة فقط!
أما الماء المكثف بفعل الجاذبية فينساب في النفق الرئيسي. وفي بعض الحالات، فإن المياه الآتية من الخطارة تخزن في صهاريج خاصة، أو تنساب بصورة مباشرة نحو نظام معقد من القنوات ليتم توزيعها لري الحقول. وتخلق بساتين نخل الواحة تحتها ظروفا مناسبة لمناخ ملائم يوفر الظل والرطوبة، ويحد من عمليات التبخر والنتح لإنتاج الخضر والنباتات المختلفة.
تنشأ مع الصيانة المناسبة للخطارة، زراعة قادرة على البقاء ترتكز على أشجار النخيل والزيتون، وتتيح إنبات القمح والشعير والذرة والبرسيم والفواكه والخضروات في الحدائق المغلقة (جنان). ومع ذلك ، فإن الخطارة تمثل في الواقع أكثر من مجرد نظام الري : إنها تجسد الهيكل الاجتماعي التقليدي للقصر وتمكن من تنظيم التفاعلات الاجتماعية التي تعتمد على العنصر الثمين الذي تشكله المياه العذبة. وهكذا،لفهم حسن تدبير الخطارة فمن الضروري تفسير دور التنظيم الجماعي و السوسيوـ سياسي الذي يتمحور حول الماء والأرض، فيعلاقته مع أفراد وأسر القصر.
بناء وصيانة الخطارة
مثلما هو الحال بالنسبة للري من النهر،فإن تدبير وصيانة الخطارة يعتبر من مسؤولية الجماعة. و تعتبر هذه الأخيرة مكونا مجتمعيا يمارس سلطة تدبير المجتمع المحلي، وغالبا ما تتكون من ممثلي العائلات السلالية داخل القصر ، الذين يتم اختيارهم وفقا لمعايير مختلفة (النبل ، الحكمة، الشجاعة والثروة).وتقاسم المياه منظم وفق نظام قد يختلف من قصر لآخر اعتمادا على طرق توزيع متعارف عليها . فالمياه تتدفق ويستفيد منها عدد من القبائل والأشخاص ذوي الحقوق و الجماعة هي التي تختار مقدما عنها (أمغار نتمازيغت،أوأمغار نتقبيلت).
تحفر وتبنى الخطارة في أغلب الأحيان بأيدي مجموعة صغيرة من العمال المهرة، وتتمثل الخطوة الحاسمة الأولى في التعرف على مصادر الموارد المائية، والتي وعادة ما تقع في النقطة التي يلتقي فيها السطح الرسوبي مع سفوح الجبال (تحصل الجبال على كمية كبيرة من المطر). ويتم حفر بئر اختبار لتحديد ما إذا كانت الموارد المائية وفيرة لتبرير حفر و بناء الخطارة. إذا كان الاختبار موفقا تبدأ عمليات الحفر بدءا من السطح نحو الأسفل أو بربط الآبار المحفورة من الداخل. ويتألف الطاقم المكلف بالحفر من مجموعات تتكون من 3-4 عمال :
يتكفل أحد أفراد المجموعة بحفر النفق الأفقي بمجرفته؛ ويساعده آخر يجمع التربة في قفة جلدية أو من سعف النخيل بينما يتكفل المتبقين من العمال المتواجدين في السطح بحبالهم بجذب الأتربة نحو الفتحات الأفقية للثقب العمودية. وترتبط سرعة حفر و بناء الأنفاق يرتبط بمدى عرض وارتفاع النفق ، وطبيعة التربة ومستوى العمق. ويمكن أن يصل الإنجاز اليومي لحفر النفق الأفقي إلى عشرين مترا (في الأرض الهشة ، القليلة العمق)، وينخفض متوسط الإنجاز اليومي إلى مترين فقط في حالة ( التربة الصلبة والعمق الكبير). وعند اصطدام عمليات الحفر بكتل الصخور الصلبة يتم غالبا التخلي عن مواصلة حفر الخطارة.
وبصورة عامة، فإن الجماعة تقرر في أمر إصلاح وصيانة الخطارة. وتسهم أيضا في حل النزاعات، وتصادق على عمليات بيع وكراء واقتسام المياه بين الملاك. وكل مالك لماء الخطارة له الحق في أن يتصرف في ملكيته كيف شاء سواء عن طريق البيع أو الشراء أو الرهن في معاملاته مع أفراد الجماعة.وفضلا عن ذلك، فإن لسكان الواحة الحق في الملكية المشتركة أي الاستفادة الجماعية من المياه للشرب أوتنظيف الملابس أو الاستحمام في السواقي التي تخترق القصر في مقابل التزام جميع السكان بالمساهمة في أشغال صيانة الخطارة على أن يتكلف مقابل ذلك مالكو الماء بتسديد النفقات الضرورية التي تتطلبها الأشغال الدورية للصيانة والإصلاح أو التوسعة.
تنظم أعمال الصيانة الجماعية تحت سلطة مسؤول إدارة المياه (الصرايفي أو أمغار نوامان ) . وينتخب هذا الأخير في المغرب سنويا من قبل الجماعة. وعادة ما يكون ذوو الحقوق في المياه ملزمون بالمشاركة في الصون الجماعي للخطارة، بغض النظر عن مساحة الأرض والمياه التي يملكونها. وفي أحيان كثيرة فإن هذه الصيانة تصبح أمرا ضروريا ، لأن تراكم الإرسابات في قعر الخطارة يؤثر على انخفاض منسوب صبيب المياه عبرها، وحصرها أحيانا أخرى. وتتمثل هذه الصيانة في إزالة الرواسب من القناة الرئيسية للخطارة والسواقي الفرعية ، وإخراجها عبر الآبار العمودية، وحماية هذه الأخيرة من تسرب الرمال السطحية للخطارة، عمليات دورية تنجزها الجماعة لضمان تدفق المياه، فضلا عن إدامة فترات التفتيش والمراقبة. ومن الناحية العملية. ومن الناحية العملية، فإن كل عائلة مستفيدة من المياه في الجماعة مدعوة إلى انتداب شخص في اليوم لمتابعة أشغال الصيانة، وإذا كلفت أطراف خارجية بهذه المهمة، تكلف جميع ذوي الحقوق في مياه السقي بأداء تكلفة الصوائر المترتبة عن هذه الأشغال.
يوزع الصرايفي مهام الاشتغال بين العاملين فهو يسند المهام الصعبة إلى للشباب ، وتلك التي لا تتطلب جهدا كبيرا للمسنين. وعلى سبيل المثال ، فإن كبار السن من الرجال يعهد لهم قطع وإزالة الفروع والأغصان التي تعوق تدفق المياه على طول السواقي.في حين يقوم الرجال الأصغر سنا بالاضطلاع بمهام مثل إزالة الرواسب و للقيام بذلك ، تقسم الساقية إلى ثلاثة أقسام (أسفيل ) ، ويقوم بتطهير كل قسم شخصان.وأحيانا تكون هناك مهام محددة المتراكمة في القنوات، يقوم بها العمال المتخصصون (المعلمين) في مقابل مبالغ مالية معينة.
كل شخص لا يستطيع المشاركة في العمل الجماعي لسبب من الأسباب عليه أن يؤجر عاملا آخر لتعويضه، أو عليه إعداد وجبة أكل لجميع العمال.ويترتب عن رفض كل فرد المساهمة إطلاقا في العمل الجماعي عقوبات تغريمية من قبل المسؤول عن إدارة المياه،أو يحال على الجماعة السلالية لاتخاذ الإجراء المناسب ضده .
التدبير اليومي للمياه
يتم توزيع المياه في إطار دوري دائم التناوب بين الليل والنهار، حيث يوزع الماء على الحقول وبساتين النخل حسب مناطق تموقعها. وبعهد للإشراف على توزيع مياه الري لشخص مؤهل وخبير بقضايا المياه يدعى باللهجة المحلية صرايفي يختار دائما بعناية من قبل جماعة القصر بعد لقاء استشارة مع مالكي المياه والمنتفعين منها لمدة محدودة غالبا ما تكون قابلة للتجديد. وإدارة المياه يحكمها عرف جماعي يطوره السكان أنفسهم حسب حاجياتهم،وتستعمل (الخروبة 45 دقيقة) كوحدة قياس توزيع مياه الري انطلاقا من منابعها، ويستعين الصرايفي بصهاريج تخزين المياه وقنوات تصريفها الرئيسية والثانوية لضمان مد مختلف المستعملين للمياه بحصصهم المائية في مختلف بساتين الواحة. ويشرف الصرايفي أيضا على تجميع مياه العيون في صهاريج كبيرة ومتوسطة يسهل معها التحكم في توزيع المياه على دوي الحقوق عبر قنوات خاصة وفق دورات ري تتراوح بين 7 أيام في الصيف و 15 يوما في الشتاء.
ساهم اعتماد الخروبة كوحدة لقياس صبيب المياه، في حل معظم النزاعات التي كانت تقع بين المالكين للمياه ومستعمليها، بفعل تغير الصبيب في المصدر والاختلافات في تباين صبيب العيون بين الليل والنهار وحسب الفصول.
الساعة المائية: تيغيرت(tighirte)
بالنظر للتدابيرالمائية الحالية، فقد وضعت الجماعة تقنيات دقيقة لتحديد موازين توزيع المياه على المالكين أو المنتفعين.و تختلف هذه التقنية من ترسيم الحدود الطبيعية إلى توزيع المياه ليلا ونهارا على الملكيات إلى الأدوات التي من هي صنع الإنسان كالساعة المائية. ومن بين هذه الساعات ساعة تيغيرت التي تشتغل على مدار الساعة .إن ساعة مثل هذه، كانت مفيدة بشكل خاص خلال الليل أو في الأيام التي تغيب فيها الشمس حيث يصبح معه توظيف الظل في قياس الزمن أمرا غير ممكن.
نظرا لانعدام تواجد الساعات لقياس الزمن في الماضي،ولكي يقيس السكان الخروبة أو تناست، استعملوا لذلك آنية من النحاس على شكل نصف كروي تسمى تيغيرت. يثقب هذا الوعاء في أسفله بالشكل الذي يسمح بالنفاذ التدريجي للماء إلى داخله وتختلف سعته المائية حسب الحصة المائية التي يقيسها، وهي في جميع الأحوال تقل أو تزيد عن 1،5 لتر من الماء. يتكلف الصرايفي بوضع تغيرت في وعاء أكبر مملوء بالماء لتطفو فوقه ، وباستمرار دخول الماء من ثقب الإناء النحاسي يمتلأ هذا الأخير و يغوص إلى أسفل الوعاء ويسجل بذلك القياس المائي في حده الأدنى بالنسبة لتناست وحده الأقصى بالنسبة للخروبة .
مخاطر الصيانة اليوم
مع ضعف السلطة الفعلية للجماعة السلالية في أيامنا هذه، وتضاؤل دور الاقتصاد الزراعي، فإن الكثير من الناس أصبحوا يتهربون من التزاماتهم الجماعية ومن قوانينهم وأعرافهم المحلية المنظمة للعمل الجماعي.بل إن الشباب على وجه الخصوص، أصبحوا يعزفون عن الامتثال للأنظمة الموروثة و المشاركة في أشغال الصيانة ولا أحد يستطيع إجبارهم على فعل دلك. هذا إلى جانب راجع الاهتمام و تدني حافزية الاشتغال بالقطاع الزراعي مما زاد من إهمال العمل الجماعي لصيانة الخطارات.
هناك عامل حاسم آخر ساهم في تدهور الخطارات بالمغرب، تمثل في إنشاء العديد من المضخات المائية خلال سنوات السبعينيات، وأيضا في ما تلاه من ضخ مفرط تسبب في انخفاض الفرشات المائية، فأصبحت بذلك الخطارات غير نافعة .وقد عززت هذه العوامل بعضها البعض بشكل متزامن مع تناقص جريان الماء في الخطارات وتراجع في أهمية الفلاحة بعد ذلك. بل إن الاهتمام بالحفاظ على الخطارات بات في تراجع مستمر، بينما حظيت المضخات المائية بالمزيد من التشجيع.وفي هذا السياق، فإن مستقبل صيانة الخطارات ونظم الري أصبح مع مضي الوقت من الصعب ضمانه.